UAE
This article was added by the user . TheWorldNews is not responsible for the content of the platform.

جزر البليار الراقصات -1

من الرحلات التي لا تنسى، ولن يصيبك فيها السأم أو الندم، خاصة إن كان هدفك نشدان النسيان، وجلب الفرح لقلبك المثقل، وفكرة أن يجد الإنسان الطائر ملاذاً له، ولو كان عشاً في جزيرة، رحلة متوسطية للجزر الراقصات: ميوركا، منوركا، إيبيثا، وفورمينتيرا، أو جزر البليار، قد لا تعود لها ثانية، لأنها تعطيك جمالها دفعة واحدة، وتودعك، وقد تأتيها كبحّار ضل طريقه، وكان قريباً، يحوم حولها، وكان هناك ما يستدعيه ليضع رأسه ويستريح، وكشأن الجزر حين تدخلها تشعر بالفرح والطمأنينة، هرباً من الريح والموج، وما يخبئه الأزرق للناس، تشعر أنك قد تبني بيتاً من قش أو تتخذ لك من صخورها كهفاً، فجأة يحضر الاستقرار، ومشهد الأطفال، وأن تخرج ما خبأته من أموال من أسفارك الطويلة، بحثاً في داخلها عن صبية، ترضى ببحّار لائث سحبه الموج إلى مدينتها، غير أن لهذه الجزر ترحاباً آخر، هي حيّة بالناس المتقاطرين عليها من بحار العالم، جالبين معهم ضجيجهم، وضحكاتهم، وإغواءاتهم، وساحرة بأماكنها، وتلك الألفة التي تطرحها عليك، فلا تجد نفسك غريباً منذ اللحظة الأولى، تلك ميزة الجزر التي تتوسد ما تبقى من البحر لليابسة.
سماها اليونانيون جزر «جيمنسي»، وتعني العاري أو الجزر الجرداء، لأن سكانها كانوا عراة، كما هم الآن في صيفها، نظراً للمناخ المعتدل بها، غير أن بعضهم يرجع التسمية للفينيقية كون سكانها رماة بالسهام، أطلق عليها العرب الجزائر الشرقية، تبلغ مساحتها خمسة آلاف كم مربع، وسكانها قرابة المليون ومائتي نسمة، لكن الغرباء هم من يعطونها تلك الروح والمشاغبة واختلاط ليلها بنهارها، تجد فيها المسافر الأجرد، إلا من حقيبة منامه على ظهره، ويسكن حدائقها، يفترش أرضها، ويتغطى بسمائها، وتجد الغنى الفاحش الذي يلتهم طاولاتها الخضراء بالأوراق المالية، وطاولات طعامها المشتهى، إيبيثا أو إيبيزا هي القاعدة لهؤلاء المشاهير الراسية فنادقهم المتحركة، يصعب عليك التمييز فيها بين تاجر سلاح ومهرب مخدرات أو سليل نعمة متوارثة عبر أجيال من الإقطاع، وحده الليل قد يجمع الجميع، ويسود ذاك الود المسكر لساعات، حيث في الليل كل الوجوه متشابهة، قبل أن يصحو الكل على نهار له عيون مميزة.
تتناوب على وقتك المطاعم الفاخرة التي تقدم خزائن البحار من ثمار، بعضها يمشي على عشر، وبعضها يترجرج، وبعضها الآخر رخو، ومنها حيّ يلبط، وتزداد حركته مع عصرة الليمون التي تجفله من رقاده، وأشياء بحرية يجفل منها شخص مثلي، يعشق المشي على الرمل، تربى في واحة وسط الصحراء، تحوطها الجبال، وطيب ثمرها النخلة وما تساقط منها، لا يأكل إلا مما استأنس، ولا يغامر خاصة في وجبة العشاء التي يريدها دائماً ملوكية، مهما كلفت، ولا يهمه كثيراً ليلتها، ولو حلف ذلك الـ «شيف» على شاربه المشذب المهذب، وقبعته المتعالية، أنها وجبة ملوكية، وتزيد من عافية الرجال.
هناك مشكلة في تلك الجزر الإسبانية كثرة الملح عند أهلها، وكأنهم يعاندون الجن وأكلهم المهسوس، وحين تسأل، لا أحد يجيبك عن السبب، لذا لا تستغرب إن سمى العرب مدينة «مالقا»، والتي تعني الملح، ربما السبب يكون جوعاً تاريخياً منذ إن كان الملح «Salt» بالإنجليزية و«Sel» بالفرنسية و«Sal» بالإسبانية، يدفع كراتب شهري للجندي في العصور القديمة، ومنها جاءت كلمة المشاهرة أو الراتب «salary» أو أنه بذخ من كثرة وجود الملاحات في كل مكان، يا لها من رحلة سكّنت النفس.. ومنعتك من اللهاث في تلك الجزر الراقصات! وغداً نكمل